"الخطوط"
كانت عائشة تبحث في توتر شديد بين الأغراض المبعثرة في خزانة غرفة نومها , نظرت إلى مريم قائلة :
-إلى متى ستظلين تنظرين إلى المرآة و لا تكلفين نفسك مجرد عناء سؤالي عن الذي أبحث عنه؟!
-و عم تبحثين؟
-أبحث عن المشد , فلا يمكنني الذهاب إلى الحفب و بطني على هذا النحو, لقد كبرتُ كثيرا منذ أن ذهبت إلى البادية العام الماضي , فلا أعرف لماذا لا يمكنني أن أكون سمينة دون أن تكون بطني كبيرة هكذا؟
-توقفي عن هذا الحديث السخيف , المشد هناك في الدرج السفلي للخزانة.
-ألم يكن بإمكانك أن تقولي هذا قبل أن أحدث كل هذه الفوضى ؟
-لم تسأليني؟
-لم أشعر أنك تنتبهين لوجودي , فأنت جالسة منذ ساعات تحدقين في هذه المرآة و لا أعرف السبب؟ فلم تبدئي حتى الآن بوضع الزينة , لكن انتبهي ما إن أنتهي من وضع المشدّ و أخرج من الحملم حتى نذهب, فاستعدي.
واصلت النظر في المرآة و بدأت تتحسس تلك الخطوط التي تغزو وجهها تدريجيا , إنها تزداد انتشارا , لقد بدأ جلدها في الإرتخاء إلى أسفل , و كذلك رقبتها , كانت تشعر بمرارة شديدة , لقد بدأ كل شئ ينتهي , و بدأ العد التنازلي لجمالها الذي طالما اعتبرته رأس مالها الأساسي.
خرجت عائشة من الحمام و صرخت قائلة :
-ما زلتِ كما تركتُك؟
-ردت عليها بصوت متقطع : أنا ..أنا لستُ ذاهبةً معك.
-ما بك يا مريم ؟ قولي لي أنا صديقتك و أختك , أرجوك.
-انظري إلى وجهي هل ترين تلك الخطوط ؟ لقد بدأت أفقده , بدأت أفقد جمالي .
-عم تتحدثين؟! هذه سنة الحياة و قدرنا جميعا.
-قدركم و استسلمتم له , لأنه ليس مشكلة بالنسبة لكم , و لكن أنا ما ذا أفعل ؟ لقد كان كل ما أملك , و ها أنذا أفقده , لقد كان الرجال يركضون ورائي , لا أطلب شيئا إلا و يُنَفَّذ لي , يكفيني فقط أن أبتسم لأحدهم ليضع الدنيا بين يديّ , لكن -الآن – الجميع يتهرب مني , فلم أعد أملك ما يريدون.
-ما بك يا مريم كل هذا بسبب موقف "سيدي" بالأمس , لم أعتقد أن كلامه سيؤثر فيك إلى هذه الدرجة.
-ليس بسبب ذلك فقط , كل شئ تغير في حياتي حتى أزواجي السابقي توقفوا عن الإلحاح طلب الرجوع إليهم ...كلام "سيدي" صحيح لقد كنتُ أعتمد على الجزء الفاني فـِيّ , اعتمدتُ على شئ في طريقه إلى الإنتهاء , لم أكمل دراستي , و لم أبحث عن عمل , كان همي الوحيد أن يراني الجميع و أنا أسحب رجلا حلفي و يده في جيبه , حتى أبنائي لم أتردد في إعطائهم لآبائهم ليتولوا تربيتهم , فلم يكن لديّ وقت لذلك.
اقتربت عائشة منها و وضَعَـت يدها فوق كتفها قائلة :
-علينا دائما أن نضع اعتبارا لكل الإحتمالات و نحسب حسابها , لا يمكن لأحد أن يظل في المقدمة , فذلك يتطلب مجهودا كبيرا , فسيتعب حتما و يبدأ في التراجع إلى الخلف , هذه سنة الحياة و علينا أن نَعـِيَهَا جيدا.
-ما هذا يا عائشة ؟ يبدو أن الفلسفة التي يصبها زوجك في أذنيك بين الحين و الآخر قد أثرت فيك .
ضحكت عائشة ساخرة و قالت :
-هذا الأستاذ الذي تزوجته أقرب مثال على التناقض في هذه الحياة , فمع شعاراته التي يرفعها حول ضرورة تعلم المرأة لم يتردد في أن يطلب مني ترك الدراسة و التفرغ له و لمنزل الزوجية كما يقول , مع أننا لا نعيش في هذا المنزل إلا ثلاثة أشهر في السنة , بينما يقضي هو بقيتها في العمل أستاذا في الخارج و أقضيه أنا في منزل امرأة مجنونة مثلك.
نظرت إليها مريم و وضعت المرآة جانبا و قالت :
-أنا لستُ مجنونة و لكني مجرد امرأة بدأت تعيد حساباتها , و أرجو أن لا يكون الوقت قد فات .
-أرجو أنا ذلك أيضا , و لكني أعتقد أن وقت الحفل سينتهي , إذا لم تستعدي و تأتي معي حالا , و تأكدي أنني لن أذهب من دونك.
-سأذهب معك يا عائشة , فقد ينتشلني ذلك من هذه الأفكار التي تحاصرني.
********** ***********
وضعتْ يدَها على زر الإضاءة لتترك المنزل و الأفكار التي تركـَـتــْهَا فيه يغرقان في الظلام من دونها , إنها تنظر إلى ذلك النور الخافت أمامها ستسعى إليه بكل ما لديها من عزم , لتصنع مستقبلا أكثر إشراقا مهما كانت مدته قصيرة
No comments:
Post a Comment